فصل: النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ التَّاسِعُ: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ:

أَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ جَمَاعَةٌ أَقْدَمُهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمِنْ أَشْهَرِهَا كِتَابُ الْوَاحِدِيِّ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ إِعْوَازٍ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ فَحَذَفَ أَسَانِيدَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَأَلَّفَ فِيهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ حَجَرٍ كِتَابًا مَاتَ عَنْهُ مُسْوَدَّةً، فَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ كَامِلًا.
وَقَدْ أَلَّفْتُ فِيهِ كِتَابًا حَافِلًا مُوجَزًا مُحَرَّرًا لَمْ يُؤَلَّفْ مَثَلُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ، سَمَّيْتُهُ لُبَابُ النُّقُولِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ.
قَالَ الْجَعْبَرِيُّ‏: نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى قِسْمَيْن: قِسْمٌ نَزَلَ ابْتِدَاءً، وَقِسْمٌ نَزَلَ عَقِبَ وَاقِعَةٍ أَوْ سُؤَالٍ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ مَسَائِلٌ:

.(المسألة) الْأُولَى‏: فَوَائِدُ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ النُّزُولِ:

زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُ لَا طَائِلَ تَحْتَ هَذَا الْفَنِّ، لِجَرَيَانِهِ مَجْرَى التَّارِيخِ. وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، بَلْ لَهُ فَوَائِدُ:
مِنْهَا‏: مَعْرِفَةُ وَجْهِ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ.
وَمِنْهَا‏: تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ‏.
وَمِنْهَا‏: أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَيَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَإِذَا عُرِفَ السَّبَبُ قَصُرَ التَّخْصِيصُ عَلَى مَا عَدَا صُورَتَهُ، فَإِنَّ دُخُولَ صُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيٌّ وَإِخْرَاجُهَا بِالَاجْتِهَادِ مَمْنُوعٌ كَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ، وَالِالْتِفَاتَ إِلَى مَنْ شَذَّ، فَجَوَّزَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى وَإِزَالَةُ الْإِشْكَال: قَالَ الْوَّاحِدِيُّ‏: لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْآيَةَ دُونَ الْوُقُوفِ عَلَى قِصَّتِهَا وَبَيَانِ نُزُولِهَا‏.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ‏: بَيَانُ سَبَبِ النُّزُولِ طَرِيقٌ قَوِيٌّ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ‏.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ‏: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُوَرِّثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ‏.
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آلِ عِمْرَانَ: 188] وَقَالَ‏: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحٌ بِمَا أُوتِيَ، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَ سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، وَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ‏.
وَحُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَان: الْخَمْرُ مُبَاحَةٌ، وَيَحْتَجَّانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {‏‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا‏‏} الْآيَةَ [الْمَائِدَةُ: 93] وَلَوْ عَلِمَا سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ‏: كَيْفَ بِمَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الِلَّهِ وَمَاتُوا وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَهِيَ رِجْسٌ؟ فَنَزَلَتْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطَّلَاق: 4] فَقَدْ أَشْكَلَ مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ عَلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: بِأَنَّ الْآيِسَةَ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ تُرَتِّبْ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سَبَبَ النُّزُولِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي عِدَدِ النِّسَاءِ، قَالُوا‏: قَدْ بَقِيَ عَدَدٌ مِنْ عِدَدِ النِّسَاءِ لَمْ يُذْكَرْنَ: الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ، فَنَزَلَتْ‏. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، عَنْ أُبَيٍّ. فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حُكْمُهُنَّ فِي الْعِدَّةِ وَارْتَابَ: هَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ عِدَّتُهُنَّ كَاللَّاتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ لَا؟ فَمَعْنَى {إِنِ ارْتَبْتُمْ} إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حُكْمُهُنَّ وَجَهِلْتُمْ كَيْفَ يَعْتَدِدْنَ، فَهَذَا حُكْمُهُنَّ‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِلَّهِ} [الْبَقَرَة: 115]. فَإِنَّا لَوْ تُرِكْنَا وَمَدْلُولَ اللَّفْظِ لَاقْتَضَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا عُرِفَ سَبَبُ نُزُولِهَا عَلَى أَنَّهَا فِي نَافِلَةِ السَّفَرِ، أَوْ فِيمَنْ صَلَّى بِالَاجْتِهَادِ وَبَانَ لَهُ الْخَطَأُ؛ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الِلَّهِ‏} [الْبَقَرَة: 158]، فَإِنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّعْيَ. فَرْضٌ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ تَمَسُّكًا بِذَلِكَ، وَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ عَلَى عُرْوَةَ فِي فَهْمِهِ ذَلِكَ بِسَبَبِ نُزُولِهَا، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَأَثَّمُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَزَلَتْ‏.
وَمِنْهَا‏: دَفْعُ تَوَهُّمِ الْحَصْر: قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهُ تَعَالَى: {‏‏قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا‏‏} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 145]: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا حَرَّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَكَانُوا عَلَى الْمُضَادَّةِ وَالْمُحَادَّةِ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ مُنَاقِضَةً لِغَرَضِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ‏: لَا حَلَالَ إِلَا مَا حَرَّمْتُمُوهُ وَلَا حَرَامَ إِلَا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، نَازِلًا مَنْزِلَةَ مِنْ يَقُولُ‏: لَا تَأْكُلِ الْيَوْمَ حَلَاوَةً، فَتَقُولُ: لَا آكُلُ الْيَوْمَ إِلَا الْحَلَاوَةَ، وَالْغَرَضُ الْمُضَادَّةُ لَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ‏: لَا حَرَامَ إِلَا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الِلَّهِ بِهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ حِلَّ مَا وَرَاءَهُ، إِذِ الْقَصْدُ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ لَا إِثْبَاتُ الْحِلِّ‏.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْن: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَلَوْلَا سَبْقُ الشَّافِعِيِّ إِلَى ذَلِكَ لَمَا كُنَّا نَسْتَجِيزُ مُخَالَفَةَ مَالِكٍ فِي حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذَكَرَتْهُ الْآيَةُ.
وَمِنْهَا‏: مَعْرِفَةُ اسْمِ النَّازِلِ فِيهِ الْآيَةُ وَتَعْيِينُ الْمُبْهَمُ فِيهَا، وَلَقَدْ قَالَ مَرْوَانُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ‏: إِنَّهُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الْأَحْقَاف: 17] حَتَّى رَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَبَيَّنَتْ لَهُ سَبَبَ نُزُولِهَا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة: هَلْ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ فِي الْقُرْآنِ؟:

اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُول: هَلْ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ فِي الْقُرْآنِ؟
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: الْأَوَّلُ، وَقَدْ نَزَلَتْ آيَاتٌ فِي أَسْبَابٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَعْدِيَتِهَا إِلَى غَيْرِ أَسْبَابِهَا كَنُزُولِ آيَةِ الظِّهَارِ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَآيَةِ اللِّعَانِ فِي شَأْنِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي رُمَاةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ‏.
وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ عُمُومَ اللَّفْظِ قَالَ‏: خَرَجَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَنَحْوُهَا لِدَلِيلٍ آخَرَ، كَمَا قُصِرَتْ آيَاتٌ عَلَى أَسْبَابِهَا اتِّفَاقًا لِدَلِيلٍ قَامَ عَلَى ذَلِكَ‏.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْهُمَزَة: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَاصًّا وَالْوَعِيدُ عَامًّا، لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى التَّعْرِيضِ‏.
قُلْتُ‏: وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ عُمُومِ اللَّفْظ: احْتِجَاجُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي وَقَائِعَ بِعُمُومِ آيَاتٍ نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، شَائِعًا ذَائِعًا بَيْنَهُمْ‏.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ‏: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، أَخْبَرْنَا أَبِي أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ، سَمِعْتُ سَعِيدَ الْمَقْبُرِيَّ يُذَاكِرُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعَّبٍ الْقُرَظِيَّ، فَقَالَ سَعِيدٌ‏: إِنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ الِلَّه: إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ لَبِسُوا لِبَاسَ مَسُوكِ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، يَجْتَرُّونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ‏: هَذَا فِي كِتَابِ الِلَّه: {‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 204]، فَقَالَ سَعِيدٌ‏: قَدْ عَرَفْتُ فِيمَنْ أُنْزِلَتْ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ‏: إِنَّ الْآيَةَ تَنْزِلُ فِي الرَّجُلِ ثُمَّ تَكُونُ عَامَّةً بَعْدُ‏.
فَإِنْ قُلْتَ‏: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، لَمْ يَعْتَبِرْ عُمُومَ: {‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ‏} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 188]، بَلْ قَصَرَهَا عَلَى مَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.
قُلْتُ‏: أُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ أَعَمُّ مِنَ السَّبَبِ، لَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ خَاصٌّ، وَنَظِيرُهُ تَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَام: 82] بِالشِّرْكِ مِنْ قَوْلِهِ {‏إِنَّ الشِّرْكَ لِظُلْمٍ عَظِيمٌ‏} [لُقْمَانَ: 13] مَعَ فَهْمِ الصَّحَابَةِ الْعُمُومَ فِي كُلِّ ظُلْمٍ‏.
وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ قَالَ بِهِ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ مَعَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ‏. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ثَمِيلَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، عَنْ نَجْدَةَ الْحَنَفِيِّ قَالَ‏: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ قَوْلِه: {‏‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏‏} [الْمَائِدَة: 38] أَخَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ‏: بَلْ عَامٌّ‏.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ‏: قَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا كَقَوْلِهِمْ‏: إِنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَإِنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الِلَّهِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ {‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ‏} [الْمَائِدَة: 49] نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنُّضَيْرِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسْبِ اللَّفْظِ، وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ: إِنْ كَانَتْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ، فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِمَنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ. انْتَهَى‏.
تَنْبِيهٌ:
قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِي لَفْظٍ لَهُ عُمُومٌ أَمَّا آيَةٌ نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ وَلَا عُمُومَ لِلَفْظِهَا فَإِنَّهَا تَقْصُرُ عَلَيْهِ قَطْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {‏‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى‏‏} [اللَّيْل: 17- 18] فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِّيُّ مَعَ قَوْلِهِ {‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الِلَّهِ أَتْقَاكُمْ‏} [الْحُجُرَات: 13] عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ الِلَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَوَهِمَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلَهُ، إِجْرَاءً لَهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا صِيغَةُ عُمُومٍ، إِذِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِنَّمَا تُفِيدُ الْعُمُومَ إِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً أَوْ مُعَرَّفَةً فِي جَمْعٍ زَادَ قَوْمٌ‏: (أَوْ مُفْرَدٌ)، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ. وَاللَّامُ فِي الْأَتْقَى لَيْسَتْ مَوْصُولَةً، لِأَنَّهَا لَا تُوصَلُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ إِجْمَاعًا، وَالْأَتْقَى لَيْسَ جَمْعًا بَلْ هُوَ مُفْرَدٌ، وَالْعَهْدُ مَوْجُودٌ، خُصُوصًا مَعَ مَا يُفِيدُهُ صِيغَةُ (أَفْعَلَ) مِنَ التَّمْيِيزِ وَقَطْعِ الْمُشَارَكَةِ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَتَعَيَّنَ الْقَطْعُ بِالْخُصُوصِ وَالْقَصْرِ عَلَى مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ رَضِيَ الِلَّهِ عَنْهُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: شَبِيهُ السَّبَبِ الْخَاصِّ مَعَ اللَّفْظِ الْعَامِّ:

تَقَدَّمَ أَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الْعَامِّ، وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَاتُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ، وَتُوضَعُ مَعَ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْآيِ الْعَامَّةِ، رِعَايَةً لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ السِّيَاقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَاصُّ قَرِيبًا مِنْ صُورَةِ السَّبَبِ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيَّ الدُّخُولِ فِي الْعَامِّ، كَمَا اخْتَارَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ دُونَ السَّبَبِ وَفَوْقَ الْمُجَرَّدِ‏، مِثَالُهُ‏: قَوْلُهُ تَعَالَى: {‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏} [النِّسَاء: 51] إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَنَحْوِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، لَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ وَشَاهَدُوا قَتْلَى بَدْرٍ، حَرَّضُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ وَمُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ أَهْدَى سَبِيلًا؟ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَمْ نَحْنُ؟ فَقَالُوا‏: أَنْتُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْطَبِقِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ الْمَوَاثِيقِ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَمَانَةً لَازِمَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُؤَدُّوهَا حَيْثُ قَالُوا لِلْكُفَّار: أَنْتُمْ أَهْدَى سَبِيلًا حَسَدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ- مَعَ هَذَا الْقَوْلِ- التَّوَعُّدَ عَلَيْهِ الْمُفِيدَ لِلْأَمْرِ بِمُقَابِلِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي هِيَ بَيَانُ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِفَادَةِ أَنَّهُ الْمَوْصُوفُ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ {‏إِنَّ الِلَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏} [النِّسَاء: 58]. فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِأَمَانَةٍ، هِيَ صِفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِفَادَةِ أَنَّهُ الْمَوْصُوفُ فِي كِتَابِهِمْ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِه: {إِنَّ الِلَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 58]. فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ خَاصٌّ بِأَمَانَةٍ، هِيَ صِفَةُ النَّبِيِّ، بِالطَّرِيقِ السَّابِقِ، وَالْعَامُّ تَالٍ لِلْخَاصِّ فِي الرَّسْمِ، مُتَرَاخٍ عَنْهُ فِي النُّزُولِ، وَالْمُنَاسَبَةُ تَقْتَضِي دُخُولَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَاصُّ فِي الْعَامِّ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِه: وَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ أَخْبَرَ، عَنْ كِتْمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَهْدَى سَبِيلًا فَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَةً مِنْهُمْ، فَانْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ. انْتَهَى.
قَالَ بَعْضُهُمْ‏: وَلَا يَرِدُ تَأَخُّرُ نُزُولِ آيَةِ الْأَمَانَاتِ، عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا بِنَحْو: سِتِّ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ لَا فِي الْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَضْعُ آيَةٍ فِي مَوْضِعٍ يُنَاسِبُهَا؛ وَالْآيَاتُ كَانَتْ تُنَزَّلُ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَيَأْمُرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي عَلِمَ مِنَ الِلَّهِ أَنَّهَا مَوَاضِعُهَا‏.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَة: طَرِيقُ مَعْرِفَةِ سَبَبِ النُّزُولِ:

قَالَ الْوَاحِدِيُّ‏: لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْكِتَابِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ مِمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَوَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، وَبَحَثُوا عَنْ عِلْمِهَا‏. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ سِيرِينَ‏: سَأَلْتُ عُبَيْدَةَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ‏: اتَّقِ الِلَّهَ، وَقُلْ سَدَادًا، ذَهَبَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرٌ يَحْصُلُ لِلصَّحَابَةِ بِقَرَائِنَ تَحْتَفُّ بِالْقَضَايَا، وَرُبَّمَا لَمْ يَجْزِمْ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ‏: أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَذَا كَمَا أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، «عَنْ عَبْدِ الِلَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحُرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ‏: يَا رَسُولَ الِلَّهِ إِنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِكَ! فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ...» الْحَدِيثَ‏. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {‏‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏‏} [النِّسَاء: 65].
قَالَ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيث: إِذَا أَخْبَرَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ. وَمَشَى عَلَى هَذَا ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، وَمَثَّلُوهُ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ‏: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ‏: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ‏} [الْبَقَرَةَ: 223].
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ‏: قَوْلُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا، يُرَادُ بِهِ تَارَةً سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السَّبَبَ، كَمَا تَقُولُ: عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا. وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآن: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ السَّبَبُ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدٍ؟ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِيهِ وَأَكْثَرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الَاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ، فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ. انْتَهَى‏.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَان: قَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ هَذَا الْحُكْمَ لَا أَنَّ هَذَا كَانَ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا، فَهُوَ مَنْ جِنْسِ الَاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ بِالْآيَةِ، لَا مَنْ جِنْسِ النَّقْلِ لِمَا وَقَعَ‏.
قُلْتُ‏: وَالَّذِي يَتَحَرَّرُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّهُ: مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَيَّامَ وُقُوعِهِ، لِيُخْرِجَ مَا ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي سُورَةِ الْفِيلِ مِنْ أَنَّ سَبَبَهَا قِصَّةُ قُدُومِ الْحَبَشَةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَقَائِعِ الْمَاضِيَةِ، كَذِكْرِ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَبِنَاءِ الْبَيْتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِه: {‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النِّسَاء: 125] سَبَبُ اتِّخَاذِهِ خَلِيلًا لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، كَمَا لَا يَخْفَى‏.
تَنْبِيهٌ: مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُسْنَدِ مِنَ الصَّحَابِيّ: إِذَا وَقَعَ مِنْ تَابِعِيٍّ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ، فَقَدْ يُقْبَلُ إِذَا صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ الْآخِذِينَ، عَنِ الصَّحَابَةِ كَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوِ اعْتَضَدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.

.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏: تَعَدُّدُ أَسْبَابِ النُّزُولِ:

كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ لِنُزُولِ الْآيَةِ أَسْبَابًا مُتَعَدِّدَةً، وَطَرِيقُ الَاعْتِمَادِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الْعِبَارَةِ الْوَاقِعَة:
فَإِنْ عَبَّرَ أَحَدُهُمْ بِقَوْلِه: نَزَلَتْ فِي كَذَا، وَالْآخَرُ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، وَذَكَرَ أَمْرًا آخَرَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ لَا ذِكْرُ سَبَبِ النُّزُولِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا، كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي النَّوْعِ الثَّامِنِ وَالسَّبْعِينَ‏.
وَإِنْ عَبَّرَ وَاحِدٌ بِقَوْلِه: نَزَلَتْ فِي كَذَا، وَصَرَّحَ الْآخَرُ بِذِكْرِ سَبَبِ خِلَافِهِ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَذَاكَ اسْتِنْبَاطٌ‏. وَمِثَالُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏: أُنْزِلَتْ {نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ‏} [الْبَقَرَة: 223] فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ. وَتَقَدَّمَ عَنْ جَابِرٍ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ سَبَبِ خِلَافِهِ، فَالْمُعْتَمَدُ حَدِيثُ جَابِرٍ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ اسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ وَقَدْ وَهَمَهُ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ.
وَإِنَّ ذِكْرَ وَاحِدٍ سَبَبًا وَآخَرَ سَبَبًا غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ إِسْنَادُ أَحَدِهِمَا صَحِيحًا دُونَ الْآخَرِ فَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، مِثَالُهُ‏: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ جُنْدُبٍ: «اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ‏: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}» [الضُّحَى: 1- 3].
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّهَا- وَكَانَتْ خَادِمَ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ جَرْوًا دَخَلَ بَيْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ تَحْتَ السَّرِيرِ فَمَاتَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَالَ‏: يَا خَوْلَةُ مَا حَدَثَ فِي بَيْتِ رَسُولِ الِلَّهِ؟ جِبْرِيلُ لَا يَأْتِينِي فَقُلْتُ فِي نَفْسِي‏: لَوْ هَيَّأْتُ الْبَيْتَ وَكَنَسْتُهُ، فَأَهْوَيْتُ بِالْمِكْنَسَةِ تَحْتَ السَّرِيرِ، فَأَخْرَجْتُ الْجَرْوَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْعَدُ لِحْيَتُهُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالضُّحَى} إِلَى قَوْلِهِ {‏فَتَرْضَى‏}».
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: قِصَّةُ إِبْطَاءِ جِبْرِيلَ بِسَبَبِ الْجَرْوِ مَشْهُورَةٌ، لَكِنَّ كَوْنَهَا سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الصَّحِيحِ‏.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ- أَيْضًا‏:- مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ، فَاسْتَقْبَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا- وَكَانَ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ- فَكَانَ يَدْعُو الِلَّهَ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [الْبَقَرَة: 150] فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ، وَقَالُوا {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [الْبَقَرَة: 115] وَقَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِلَّهِ} ‏. [الْبَقَرَة: 115]».
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏: نَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِلَّهِ} أَنْ تُصَلِّيَ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ فِي التَّطَوُّعِ‏.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ- وَضَعَّفَهُ- مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ‏: كُنَّا فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ؟ فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ‏.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا‏.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏: لَمَّا نَزَلَتْ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] قَالُوا‏: إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ‏. مُرْسَلٌ‏.
وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا‏: إِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ». مُعْضَلٌ غَرِيبٌ جِدًّا‏.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَضْعَفُهَا الْأَخِيرُ لِإِعْضَالِهِ، ثُمَّ مَا قَبْلَهُ لِإِرْسَالِهِ، ثُمَّ مَا قَبْلَهُ لِضَعْفِ رُوَاتِهِ، وَالثَّانِي صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ قَالَ‏: قَدْ أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّبَبِ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَصَرَّحَ فِيهِ بِذِكْرِ السَّبَبِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ‏.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ- أَيْضًا-: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ- أَوْ سَعِيدٍ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏: «خَرَجَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْا رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا‏: يَا مُحَمَّدُ، تَعَالَ فَتَمَسَّحْ بِآلِهَتِنَا، وَنَدْخُلُ مَعَكَ فِي دِينِكَ وَكَانَ يُحِبُّ إِسْلَامَ قَوْمِهِ. فَرَقَّ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الْآيَاتِ» [الْإِسْرَاء: 73- 77].
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ثَقِيفًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِّلْنَا سَنَةً حَتَّى يُهْدَى لِآلِهَتِنَا، فَإِذَا قَبَضْنَا الَّذِي يُهْدَى لَهَا أَحْرَزْنَاهُ، ثُمَّ أَسْلَمْنَا. فَهَمَّ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ فَنَزَلَتْ.
هَذَا يَقْتَضِي نُزُولَهَا بِالْمَدِينَةِ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي نُزُولَهَا بِمَكَّةَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، يَرْتَقِي بِهِ إِلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ‏.
الْحَالُ الرَّابِعُ‏: أَنْ يَسْتَوِيَ الْإِسْنَادَانِ فِي الصِّحَّةِ، فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِكَوْنِ رَاوِيهِ حَاضِرَ الْقِصَّةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ. مِثَالُهُ‏: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏: لَوْ سَأَلْتُمُوهُ! فَقَالُوا‏: حَدِّثْنَا عَنِ الرُّوحِ، فَقَامَ سَاعَةً وَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ، ثُمَّ قَالَ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَا قَلِيلًا}» [الْإِسْرَاء: 85].
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ‏: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُود: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا‏: اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ‏}.
الْآيَةَ.
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وَالْأَوَّلُ خِلَافُهُ، وَقَدْ رَجَّحَ بِأَنَّ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَصَحُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ حَاضِرَ الْقِصَّةِ‏.
الْحَالُ الْخَامِسُ: أَنْ يُمْكِنَ نُزُولُهَا عُقَيْبَ السَّبَبَيْنِ أَوِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، بِأَلَّا تَكُونَ مَعْلُومَةَ التَّبَاعُدِ، كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ‏. وَمِثَالُهُ‏: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ ابْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَمْحَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ فَقَالَ‏: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، إِذَا رَأَى أَحَدُنَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؛ يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ! فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}... حَتَّى بَلَغَ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}» [النُّور: 6- 9].
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ‏: اسْأَلْ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَقَتَلَهُ، أَيُقْتَلُ بِهِ، أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَابَ السَّائِلَ، فَأَخْبَرَ عَاصِمٌ عُوَيْمِرًا، فَقَالَ‏: وَالِلَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ‏: أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ قُرْآنٌ»... الْحَدِيثَ.
جَمَعَ بَيْنِهِمَا بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ هِلَالٌ، وَصَادَفَ مَجِيءُ عُوَيْمِرٍ أَيْضًا، فَنَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا مَعًا. وَإِلَى هَذَا جَنَحَ النَّوَوِيُّ، وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ‏: لَعَلَّهُمَا اتَّفَقَ لَهُمَا ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ‏.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ: «عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ‏: قَالَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ لَوْ رَأَيْتَ مَعَ أُمِّ رُومَانَ رَجُلًا مَا كُنْتَ فَاعِلًا بِهِ؟ قَالَ‏: شَرًّا قَالَ‏: فَأَنْتَ يَا عُمْرُ؟ قَالَ‏: كُنْتُ أَقُولُ‏: لَعَنَ اللَّهُ الْأَعْجَزَ، فَإِنَّهُ لِخَبِيثٌ». فَنَزَلَتْ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ‏: لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَسْبَابِ‏.
الْحَالُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يُمْكِنَ ذَلِكَ: فَيُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ النُّزُولِ وَتَكَرُّرِهِ‏. مِثَالُهُ‏: مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الِلَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ‏: أَيْ عَمُّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الِلَّهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الِلَّه: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ‏: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ {‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏} الْآيَةَ» [التَّوْبَة: 113].
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ- وَحَسَّنَهُ- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ‏: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ‏: تَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ! فَقَالَ‏: اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ‏.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَجَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا، فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ‏: إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَأُنْزِلَ عَلَيَّ {‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}» فَجَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِتَعَدُّدِ النُّزُولِ‏.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا‏: مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَزَّارُ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ حِينَ اسْتُشْهِدَ، وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ‏: لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}» [النَّحْل: 126] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ‏: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ‏: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَنْزَلَ اللَّهُ {‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ‏} الْآيَةَ‏.
فَظَاهِرُهُ تَأْخِيرُ نُزُولِهَا إِلَى الْفَتْحِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ نُزُولُهَا بِأُحُدٍ‏.
قَالَ ابْنُ الْحَصَّار: وَيَجْمَعُ أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلًا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَعَ السُّورَةِ لِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، ثُمَّ ثَانِيًا بِأُحُدٍ، ثُمَّ ثَالِثًا يَوْمَ الْفَتْحِ تَذْكِيرًا مِنَ الِلَّهِ لِعِبَادِهِ‏. وَجَعَلَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ آيَةُ الرُّوحِ‏.
تَنْبِيهٌ: قَدْ يَكُونُ فِي إِحْدَى الْقِصَّتَيْن: (فَتَلَا) فَيَهِمُ الرَّاوِي، فَيَقُولُ: (فَنَزَلَ)‏.
مِثَالُهُ‏: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏: كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ عَلَى ذِهِ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى ذِهِ، وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ، وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهِ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {‏وَمَا قَدَرُوا الِلَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏} الْآيَةَ» [الْأَنْعَام: 91]. وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ بِلَفْظ: فَتَلَا رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ‏.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا‏: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ الِلَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِمَقْدِمِ رَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَقَالَ‏: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَا نَبِيٌّ‏: مَا أَوَّلَ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ‏: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ‏: جِبْرِيلُ؟ قَالَ‏: نَعَمْ قَالَ‏: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {مَنْ كَانَ عَدْوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}» [الْبَقَرَة: 97].
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ: ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى قَوْلِ الْيَهُودِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نُزُولَهَا حِينَئِذٍ‏. قَالَ‏: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَقَدْ صَحَّ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ قِصَّةٌ غَيْرُ قِصَّةٍ ابْنِ سَلَامٍ‏.
تَنْبِيهٌ: عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ: أَنْ يُذْكَرَ سَبَبٌ وَاحِدٌ فِي نُزُولِ الْآيَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ يَنْزِلُ فِي الْوَقْعَةِ الْوَاحِدَةِ آيَاتٌ عَدِيدَةٌ فِي سُورٍ شَتَّى‏.
مِثَالُهُ‏: مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ: «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ الِلَّهِ، لَا أَسْمَعُ الِلَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ}» [آلِ عِمْرَانَ: 195] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ الِلَّهِ تَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلَا تَذْكُرُ النِّسَاءَ؟! فَأُنْزِلَتْ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الْأَحْزَاب: 35] وَأُنْزِلَتْ {إِنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} ‏».
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «تَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وَأَنْزَلَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ‏».
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا‏: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: «أَنَّ رَسُولَ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْه: {هَلْ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إِلَى {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الِلَّهِ} [النِّسَاء: 95] فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَالَ‏: يَا رَسُولَ الِلَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ، وَكَانَ أَعْمَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ} ‏».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- أَيْضًا- قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي لِوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي، إِذَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ، فَجَعَلَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ إِذْ جَاءَ أَعْمَى، فَقَالَ‏: كَيْفَ لِي يَا رَسُولَ الِلَّهِ وَأَنَا أَعْمَى؟ فَأُنْزِلَتْ {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ}» [التَّوْبَة: 91].
وَمِنْ أَمْثِلَتِه: مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ، فَقَالَ‏: «إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ يَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ فَطَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ الِلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ، فَجَاءَ أَصْحَابُهُ، فَحَلَفُوا بِالِلَّهِ مَا قَالُوا، حَتَّى تَجَاوَزَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {‏‏يَحْلِفُونَ بِالِلَّهِ مَا قَالُوا‏‏} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 74]‏».
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَآخِرُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ {‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏} الْآيَةَ [الْمُجَادَلَة: 18].
تَنْبِيهٌ: تَأَمَّلْ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاشْدُدْ بِهِ يَدَيْكَ، فَإِنِّي حَرَّرَتْهُ وَاسْتَخْرَجْتُهُ بِفِكْرِي مِنِ اسْتِقْرَاءِ صَنِيعِ الْأَئِمَّةِ وَمُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِهِمْ، وَلَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ.